ليس البشر فقط من يختارون أزواجهم، بل الكثير من النباتات أيضًا تختار أزواجها بعناية.
فكيف يتم ذلك؟
تمتلك معظم النباتات الزهرية أعضاء تناسلية للتكاثر؛ مكونة من أسدية تحوي حبوب الطلع (حبوب اللقاح)، وهي التي تمثل الأعضاء الذكرية للزهرة، وعضو أنثوي يتمثل في المدقة وما تحتويه من بويضات. هنا قد يعتقد البعض، أن عملية التكاثر تتم ببساطة، بسقوط حبة طلع على ميسم الزهرة، ثم إنباتها، لتقوم الأنبوبة الطلعية بالوصول للبويضات، ثم حصول الإخصاب. لكن هذا لا يحدث في أكثر من 60% من النباتات الزهرية، حيث أنها غير قادرة على تلقيح نفسها بنفس حبوب طلعها.
لكن لماذا وكيف؟
إن نسبة كبيرة من النباتات الزهرية، تملك ظاهرة وراثية تسمى «عدم التوافق الذاتي»، أو« العقم الذاتي». وتتمثل بعدم قدرة النباتات التي تشترك حبوب طلعها ومدقاتها بنفس الأليلات، على تلقيح نفسها. وتحصل هذه الظاهرة في نفس النبات، أو بينه وبين أي نبات آخر يملك حبوب طلعه، نفس الأليلات. وهذه الأليلات، تسمى ب«أليلات عدم التوافق الذاتي»، وتختلف أعدادها من نوع نباتي لآخر؛ إذ يمكن أن تصل إلى عشرات الأليلات، مسببة فشل الإخصاب الذاتي أو الإخصاب من نباتات تملك أليلات مشتركة.
إذًا كيف سيتم إخصاب مثل هذه النباتات؟
تُخصَب بويضات هذه النباتات، من طرف نباتات أخرى لا تشترك معها بنفس أليلات عدم التوافق الذاتي. أو يمكن أن تُخصِب نفسها في حال حصول طفرة وراثية في الجين المسؤول عن عدم التوافق، مما يؤدي لاستعادتها للخصوبة الذاتية.
وعلى سبيل المثال:
يرمز لأليلات عدم التوافق بالرمز (S)، وتُرقَم بأرقام حسب عددها في النبات؛ أي S1، S2، S3....... فإذا كان الطراز الوراثي للنبات الأم، S1S2 (الطراز ثنائي لأن خلايا المدقة خلايا جسمية)، وسقطت حبة لقاح طرازها الوراثي، S2 (طراز وراثي أحادي لأن حبة الطلع خلية جنسية) مثلًا؛ فإنها تكون غير قادرة على الإنبات في ميسم زهرة هذا النبات، وقد تنبت وتسير الأنبوبة الطلعية لمسافة معينة ضمن نسيج المدقة، ثم تتثبط وتتحلل ويفشل الإخصاب. أما إذا كانت حبة الطلع تحمل أليلا مغايرا لكلا الأليلين S1S2، كالأليل S3 مثلًا؛ فعندها ستنبت وتصل إلى البويضات، ويتم الإخصاب بشكل طبيعي.
أما بالنسبة للآلية الجزيئية لعمل المورثات المسؤولة عن عدم التوافق الذاتي، فتشير الدراسات أن آليات تختلف بين الفصائل النباتية، وأحيانا بين الأنواع التابعة لنفس الفصيلة. ومن بين هذه الآليات، أن الموقع الوراثي المسؤول عن عدم التوافق الذاتي، يُشفر أنزيمًا يقوم باختراق أنبوبة حبة الطلع التي تشترك مع نسيج المدقة بنفس الأليلات، ويقوم بتحطيم الـ RNA في الأنبوبة الطلعية، وبالتالي يتثبط نموها ويفشل الإخصاب.
يُذكَر أن تشارلز داروين كان أول من وصف هذه الظاهرة في نشرة له بعنوان «تأثيرات الإخصاب الذاتي والخلطي في مملكة الخضار». وسُجلَت هذه الظاهرة في الكثير من العائلات النباتية، مثل العائلة الملفوفية، والباذنجانية، والمركبة. وفي كثير من الأشجار المثمرة، مثل اللوز، والمشمش، والزيتون، وغيرها الكثير.
يُذكَر أن لهذه الآلية أهمية في الحفاظ على أنواع النباتات، حيث أن حصول الإخصاب الذاتي لأجيال متعددة سوف يؤدي لتشكل سلالات نباتية أصيلة وراثيًا، ومتشابهة مع بعضها البعض؛ مما قد يعرضها لخطر الانقراض في حال وجود ظرف بيئي يهدد وجودها، كالجفاف، أو البرودة، أو بعض الآفات التي قد تفتك بها، أو كنتيجة لتأصل بعض الطفرات المتنحية المميتة. وبالتالي عند حصول الإخصاب من طرز وراثية أخرى، سيؤدي ذلك لتشكل أفراد جديدة ذات طرز وراثية متميزة؛ وبالتالي زيادة التنوع الوراثي، وزيادة هامش القدرة على التكيف مع الظروف الاستثنائية، التي قد تهدد وجود هذا النوع النباتي أو ذاك.
أضف تعليق:
0 comments: